نَيْلُ الْأَوْطَارِ شَرْحُ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ
الإمام الشوكاني
نبذة عن الكتاب :
كتاب
منتقى الأخبار للإمام ابن تيمية قد
أحاط بأكثر أحاديث الأحكام، فقام الإمام الشوكاني بشرح هذا الكتاب،
وقد اشتمل شرحه على مزايا قل أن توجد في غيره من الكتب المؤلفة في بابه، منها أنه تعرض لتخريج الحديث وبيان طرقه
وألفاظه وما قيل في حكمه، ومنها كشفه عن معاني
الألفاظ وأقوال علماء اللغة فيها مع إيضاح المعنى الإصطلاحي الشرعي، ومنها استنباط الأحكام الفقهية من الأحاديث
وكيفية دلالتها عليها وأقوال مذاهب علماء الأمصار
وحجة كل مذهب مع الترجيح، ومنها استنباط القواعد الأصولية وتطبيق الأحكام الجزئية الفرعية عليها مع ذكر أقوال
الأصوليين وهذه طبعة مضبوطة ومرقمة الكتب والأبواب
والأحاديث
مقدمة الكتاب
نَضَّرَ اللَّهُ
امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ( حَدِيثٌ
شَرِيفٌ )
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْمَدُك يَا مَنْ شَرَحَ صُدُورَنَا بِنَيْلِ
الْأَوْطَارِ مِنْ عُلُومِ السُّنَّةِ ، وَأَفَاضَ عَلَى قُلُوبِنَا مِنْ
أَنْوَارِ مَعَارِفِهَا مَا أَزَاحَ عَنَّا مِنْ ظُلَمِ الْجَهَالَاتِ كُلَّ
دُجْنَةٍ . وَحَمَاهَا بِحُمَاةٍ صَفَّدُوا بِسَلَاسِلِ أَسَانِيدِهِمْ
الصَّادِقَةِ أَعْنَاقَ الْكَذَّابِينَ . وَكَفَاهَا بِكُفَاةٍ كَفُّوا عَنْهَا
أَكُفَّ غَيْرِ الْمُتَأَهِّلِينَ مِنْ الْمُنْتَابِينَ الْمُرْتَابِينَ . فَغَدَا
مَعِينُهَا الصَّافِي غَيْرَ مُقَذَّرٍ بِالْأَكْدَارِ . وَزُلَالُ عَذْبِهَا
الشَّافِي غَيْرَ مُكَدَّرٍ بِالْأَقْذَارِ .
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمُنْتَقَى
مِنْ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ . الْمُصْطَفَى لِحَمْلِ أَعْبَاءِ أَسْرَارِ
الرِّسَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادِ . الْمَخْصُوصِ
بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى فِي يَوْمٍ يَقُولُ فِيهِ كُلُّ رَسُولٍ : نَفْسِي
نَفْسِي ، وَيَقُولُ : " أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا
" . الْقَائِلِ : " بُعِثْت إلَى
الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ " أَكْرِمْ بِهَا مَقَالَةً مَا قَالَهَا
نَبِيٌّ قَبْلَهُ وَلَا نَالَهَا . وَعَلَى آلِهِ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ جَمِيعِ
الْأَدْنَاسِ وَالْأَرْجَاسِ . الْحَافِظِينَ لِمَعَالِمِ الدِّينِ عَنْ
الِانْدِرَاسِ وَالِانْطِمَاسِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْجَالِينَ بِأَشِعَّةِ
بَرِيقِ صَوَارِمِهِمْ دَيَاجِرَ الْكُفْرَانِ . الْخَائِضِينَ بِخَيْلِهِمْ
وَرَجْلِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ كُلَّ
مَعْرَكَةٍ تَتَقَاعَسُ عَنْهَا الشُّجْعَانُ ، وَبَعْدُ
فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ الْمَوْسُومُ بِالْمُنْتَقَى مِنْ الْأَخْبَارِ
فِي الْأَحْكَامِ . مِمَّا لَمْ يَنْسُجْ عَلَى بَدِيعِ مِنْوَالِهِ وَلَا
حَرَّرَ عَلَى شَكْلِهِ وَمِثَالِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ . قَدْ
جَمَعَ مِنْ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ مِنْ
الْأَسْفَارِ . وَبَلَغَ إلَى غَايَةٍ فِي الْإِحَاطَةِ بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ
تَتَقَاصَرُ عَنْهَا الدَّفَاتِرُ الْكِبَارُ . وَشَمَلَ مِنْ دَلَائِلِ
الْمَسَائِلِ جُمْلَةً نَافِعَةً تَفْنَى دُونَ الظَّفَرِ بِبَعْضِهَا طِوَالُ
الْأَعْمَارِ . وَصَارَ مَرْجِعًا لِجِلَّةِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى
طَلَبِ الدَّلِيلِ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ وَهَذِهِ الْأَعْصَارِ .
فَإِنَّهَا تَزَاحَمَتْ عَلَى مَوْرِدِهِ الْعَذْبِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَتَسَابَقَتْ عَلَى الدُّخُولِ فِي أَبْوَابِهِ أَقْدَامُ الْبَاحِثِينَ مِنْ
الْمُحَقِّقِينَ . وَغَدَا مَلْجَأً لِلنُّظَّارِ يَأْوُونَ إلَيْهِ . وَمَفْزَعًا
لِلْهَارِبِينَ مِنْ رِقِّ التَّقْلِيدِ يُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ . وَكَانَ كَثِيرًا
مَا يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُونَ فِي صِحَّةِ بَعْضِ دَلَائِلِهِ . وَيَتَشَكَّكُ
الْبَاحِثُونَ فِي الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ عِنْدَ تَعَارُضِ بَعْضِ
مُسْتَنَدَاتِ مَسَائِلِهِ . حَمَلَ حُسْنُ الظَّنِّ بِي جَمَاعَةً مِنْ حَمَلَةِ
الْعِلْمِ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَايِخِي عَلَى أَنْ الْتَمَسُوا مِنِّي الْقِيَامَ
بِشَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ . وَحَسَّنُوا لِي السُّلُوكَ فِي هَذِهِ الْمَسَالِكِ
الضَّيِّقَةِ الَّتِي يَتَلَوَّنُ الْخِرِّيتُ فِي مُوعِرَاتِ شِعَابِهَا
وَالْهِضَابِ . فَأَخَذْت فِي إلْقَاءِ الْمَعَاذِيرِ . وَأَبَنْت تَعَسُّرَ هَذَا
الْمَقْصِدِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ وَقُلْت : الْقِيَامُ بِهَذَا الشَّأْنِ
يَحْتَاجُ إلَى جُمْلَةٍ مِنْ الْكُتُبِ يَعِزُّ وُجُودُهَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ
. وَالْمَوْجُودُ مِنْهَا مَحْجُوبٌ بِأَيْدِي جَمَاعَةٍ عَنْ الْأَبْصَارِ .
بِالِاحْتِكَارِ وَالِادِّخَارِ كَمَا تُحْجَبُ الْأَبْكَارُ . وَمَعَ هَذَا
فَأَوْقَاتِي مُسْتَغْرَقَةٌ بِوَظَائِفِ الدَّرْسِ وَالتَّدْرِيسِ ، وَالنَّفْسُ
مُؤْثِرَةٌ لِمُطَارَحَةِ مَهَرَةِ الْمُتَدَرِّبِينَ فِي الْمَعَارِفِ عَلَى
كُلِّ نَفِيسٍ . وَمَلَكَتِي قَاصِرَةٌ عَنْ الْقَدْرِ الْمُعْتَبَرِ فِي هَذَا
الْعِلْمِ الَّذِي قَدْ دُرِسَ رَسْمُهُ ، وَذَهَبَ أَهْلُهُ مُنْذُ أَزْمَانٍ
قَدْ تَصَرَّمَتْ ، فَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا اسْمُهُ لَا
سِيَّمَا وَثَوْبُ الشَّبَابِ قَشِيبٌ ، وَرُدْنُ الْحَدَاثَةِ بِمَائِهَا خَصِيبٌ
. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِعُلُوِّ السِّنِّ وَطُولِ الْمُمَارَسَةِ فِي هَذَا
الشَّأْنِ أَوْفَرَ نَصِيبٍ . فَلَمَّا لَمْ يَنْفَعْنِي الْإِكْثَارُ مِنْ هَذِهِ
الْأَعْذَارِ وَلَا خَلَّصَنِي مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلَبِ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ
الْمَوَانِعِ الْكِبَارِ ، صَمَّمْت عَلَى الشُّرُوعِ
فِي هَذَا الْمَقْصِدِ الْمَحْمُودِ . وَطَمِعْت أَنْ يَكُونَ قَدْ أُتِيحَ لِي أَنِّي
مِنْ خَدَمِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مَعْدُودٌ . وَرُبَّمَا أَدْرَكَ
الطَّالِعُ شَأْوَ الضَّلِيعِ وَعُدَّ فِي جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ الْمُتَعَاقِلُ
الرَّقِيعُ ، وَقَدْ سَلَكْت فِي هَذَا الشَّرْحِ لِطُولِ الْمَشْرُوحِ مَسْلَكَ
الِاخْتِصَارِ . وَجَرَّدْتُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّعْرِيفَاتِ
وَالْمُبَاحَثَاتِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْإِكْثَارِ ، لَا سِيَّمَا فِي
الْمَقَامَاتِ الَّتِي يَقِلُّ فِيهَا الِاخْتِلَافُ ، وَيَكْثُرُ بَيْنَ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِهَا الِائْتِلَافُ . وَأَمَّا فِي
مَوَاطِنِ الْجِدَالِ وَالْخِصَامِ فَقَدْ أَخَذْت فِيهَا بِنَصِيبٍ مِنْ إطَالَةِ
ذُيُولِ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهَا مَعَارِكُ تَتَبَيَّنُ عِنْدَهَا مَقَادِيرُ
الْفُحُولِ . وَمَفَاوِزُ لَا يَقْطَعُ شِعَابَهَا وَعِقَابَهَا إلَّا نَحَارِيرُ
الْأُصُولِ ، وَمَقَامَاتٌ تَتَكَسَّرُ فِيهَا النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ .
وَمَوَاطِنُ تُلْجَمُ عِنْدَهَا أَفْوَاهُ الْأَبْطَالِ بِأَحْجَارِ الْجِدَالِ .
وَمَوَاكِبُ تَعْرَقُ فِيهَا جِبَاهُ رِجَالِ حَلِّ الْإِشْكَالِ وَالْإِعْضَالِ .
وَقَدْ قُمْت وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ مَقَامًا لَا
يَعْرِفُهُ إلَّا الْمُتَأَهِّلُونَ . وَلَا يَقِفُ عَلَى مِقْدَارِ كُنْهِهِ مِنْ
حَمَلَةِ الْعِلْمِ إلَّا الْمُبَرِّزُونَ . فَدُونَكَ يَا مَنْ لَمْ يَذْهَبْ
بِبَصَرِ بَصِيرَتِهِ أَقْوَالُ الرِّجَالِ . وَلَا تَدَنَّسَتْ فِطْرَةُ عِرْفَانِهِ
بِالْقِيلَ وَالْقَالَ . شَرْحًا يَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيَمْشِي عَلَى سَنَنِ
الدَّلِيلِ وَإِنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ ، وَإِنِّي مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الْخَطَأَ
وَالزَّلَلَ هُمَا الْغَالِبَانِ عَلَى مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ عَجَلٍ ،
وَلَكِنِّي قَدْ نَصَرْت مَا أَظُنُّهُ الْحَقَّ بِمِقْدَارِ مَا بَلَغَتْ إلَيْهِ
الْمَلَكَةُ . وَرَضَتْ النَّفْسُ حَتَّى صَفَتْ عَنْ قَذَرِ التَّعَصُّبِ الَّذِي
هُوَ بِلَا رَيْبٍ الْهَلَكَةُ . وَقَدْ اقْتَصَرْت فِيمَا عَدَا هَذِهِ
الْمَقَامَاتِ الْمُوَصَّفَاتِ عَلَى بَيَانِ حَالِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِ
غَرِيبِهِ ، وَفِيهِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ بِكُلِّ الدَّلَالَاتِ ، وَضَمَمْت إلَى
ذَلِكَ فِي غَالِبِ الْحَالَاتِ الْإِشَارَةَ إلَى بَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ
الْوَارِدَةِ فِي الْبَابِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ لِعِلْمِي بِأَنَّ
هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يَرْغَبُ فِي مِثْلِهَا أَرْبَابُ
الْأَلْبَابِ مِنْ الطُّلَّابِ . وَلَمْ أُطَوِّلْ ذَيْلَ هَذَا الشَّرْحِ
بِذِكْرِ تَرَاجُمِ رُوَاةِ الْأَخْبَارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ عِلْمًا
آخَرَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرٍ مِنْ كُتُبِ الْفَنِّ مِنْ
الْمُخْتَصَرَاتِ الصِّغَارِ . وَقَدْ أُشِيرُ فِي النَّادِرِ إلَى ضَبْطِ اسْمِ
رَاوٍ أَوْ بَيَانِ حَالِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّنْبِيهِ . لَا سِيَّمَا فِي
الْمَوَاطِنِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ تَحْرِيفٍ أَوْ تَصْحِيفٍ لَا يَنْجُو مِنْهُ
غَيْرُ النَّبِيهِ . وَجَعَلْت مَا كَانَ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى
فِقْهِ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَسْتَطْرِدُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فِي غُضُونِهِ مِنْ
جُمْلَةِ الشَّرْحِ فِي الْغَالِبِ ، وَنَسَبْت ذَلِكَ إلَيْهِ ، وَتَعَقَّبْت مَا
يَنْبَغِي تَعَقُّبُهُ عَلَيْهِ ، وَتَكَلَّمْت عَلَى مَا لَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ
عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الطَّالِبُ ، كُلُّ ذَلِكَ لِمَحَبَّةِ
رِعَايَةِ الِاخْتِصَارِ وَكَرَاهَةِ الْإِمْلَالِ بِالتَّطْوِيلِ وَالْإِكْثَارِ
، وَتَقَاعُدِ الرَّغَبَاتِ وَقُصُورِ الْهِمَمِ عَنْ الْمُطَوَّلَاتِ .
وَسَمَّيْت هَذَا الشَّرْحَ لِرِعَايَةِ
التَّفَاؤُلِ . الَّذِي كَانَ يُعْجِبُ الْمُخْتَارَ .
نَيْلُ الْأَوْطَارِ
شَرْحُ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يَنْفَعَنِي
بِهِ وَمَنْ رَامَ الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ إخْوَانِي ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ
الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ عَنِّي نَفْعُهَا بَعْدَ أَنْ أُدْرَجَ فِي
أَكْفَانِي . وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَذْكُرُ
تَرْجَمَتَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ فَنَقُولُ : هُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
عَلَّامَةُ عَصْرِهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ ، أَبُو الْبَرَكَاتِ شَيْخُ
الْحَنَابِلَةِ مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَرَّانِيِّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ تَيْمِيَّةَ . قَالَ الذَّهَبِيُّ
فِي النُّبَلَاءِ : وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ تَقْرِيبًا ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى عَمِّهِ الْخَطِيبِ ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَهُوَ مُرَاهِقٌ مَعَ
السَّيْفِ ابْنِ عَمِّهِ ، وَسَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ سُكَيْنَةَ وَابْنِ
طَبْرَزَدْ وَيُوسُفَ بْنِ كَامِلٍ ، وَعِدَّةٍ ، وَسَمِعَ بِحَرَّانَ مِنْ
حَنْبَلٍ وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْحَافِظِ ، وَتَلَا بِالْعَشْرِ عَلَى الشَّيْخِ
عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ سُلْطَانٍ . حَدَّثَ عَنْهُ وَلَدُهُ شِهَابُ الدِّينِ
وَالدِّمْيَاطِيُّ وَأَمِينُ الدِّينِ بْنُ شُقَيْرٍ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ
مَنْصُورٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْبَزَّارِ وَالْوَاعِظُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْمُحْسِنِ وَغَيْرُهُمْ ، وَتَفَقَّهَ وَبَرَعَ وَاشْتَغَلَ وَصَنَّفَ
التَّصَانِيفَ ، وَانْتَهَتْ إلَيْهِ الْإِمَامَةُ فِي الْفِقْهِ وَدَرَّسَ
الْقِرَاءَاتِ ، وَصَنَّفَ فِيهَا أُرْجُوزَةً . تَلَا عَلَيْهِ الشَّيْخُ
الْقَيْرَوَانِيُّ . وَحَجَّ فِي سَنَةِ إحْدَى وَخَمْسِينَ عَلَى دَرْبِ
الْعِرَاقِ ، وَابْتُهِرَ عُلَمَاءُ بَغْدَادَ لِذَكَائِهِ وَفَضَائِلِهِ
وَالْتَمَسَ مِنْهُ أُسْتَاذُ دَارِ الْخِلَافَةِ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ الْإِقَامَةَ عِنْدَهُمْ فَتَعَلَّلَ بِالْأَهْلِ وَالْوَطَنِ .
قَالَ الذَّهَبِيُّ : سَمِعْت الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ أَبَا الْعَبَّاسِ
يَقُولُ : كَانَ الشَّيْخُ ابْنُ مَالِكٍ يَقُولُ : أُلِينَ لِلشَّيْخِ الْمَجْدِ
الْفِقْهُ كَمَا أُلِينَ لِدَاوُدَ الْحَدِيدُ . قَالَ الشَّيْخُ : وَكَانَتْ فِي
جَدِّنَا حِدَّةٌ ، اجْتَمَعَ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ
، فَقَالَ : الْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا : الْأَوَّلُ كَذَا ،
وَالثَّانِي كَذَا ، وَسَرَدَهَا إلَى آخِرِهَا ، وَقَدْ رَضِينَا عَنْك
بِإِعَادَةِ أَجْوِبَةِ الْجَمِيعِ فَخَضَعَ لَهُ وَابْتُهِرَ . قَالَ
الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَمْدَانَ : كُنْت أُطَالِعُ عَلَى دَرْسِ الشَّيْخِ وَمَا أُبْقِي
مُمْكِنًا ، فَإِذَا أَصْبَحْت وَحَضَرْت يَنْقُلُ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً لَمْ
أَعْرِفْهَا . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَجَدْنَاهُ عَجِيبًا فِي
سَرْدِ الْمُتُونِ وَحِفْظِ الْمَذَاهِبِ بِلَا كُلْفَةٍ ، وَسَافَرَ مَعَ ابْنِ
عَمِّهِ إلَى الْعِرَاقِ لِيَخْدُمَهُ وَلَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَكَانَ
يَبِيتُ عِنْدَهُ يَسْمَعُهُ يُكَرِّرُ مَسَائِلَ الْخِلَافِ فَيَحْفَظُ
الْمَسْأَلَةَ . وَأَبُو الْبَقَاءِ شَيْخُهُ فِي النَّحْوِ وَالْفَرَائِضِ ،
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ غُنَيْمَةَ شَيْخُهُ فِي الْفِقْهِ ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ
سِتَّةَ أَعْوَامٍ مُكِبًّا عَلَى الِاشْتِغَالِ ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إلَى بَغْدَادَ
قَبْلَ الْعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ، فَتَزَيَّدَ مِنْ الْعِلْمِ وَصَنَّفَ
التَّصَانِيفَ مَعَ الدِّينِ ، وَالتَّقْوَى وَحُسْنِ الِاتِّبَاعِ . وَتُوُفِّيَ
بِحَرَّانَ يَوْمَ الْفِطْرِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ .
وَإِنَّمَا قِيلَ لِجَدِّهِ : تَيْمِيَّةَ ؛ لِأَنَّهُ حَجَّ عَلَى دَرْبِ
تَيْمَاءَ فَرَأَى هُنَاكَ طِفْلَةً ، فَلَمَّا رَجَعَ وَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ
وَلَدَتْ لَهُ بِنْتًا فَقَالَ : يَا تَيْمِيَّةَ يَا تَيْمِيَّةَ فَلُقِّبَ
بِذَلِكَ . وَقِيلَ : إنَّ أُمَّ جَدِّهِ كَانَتْ تُسَمَّى تَيْمِيَّةَ ،
وَكَانَتْ وَاعِظَةً ، وَقَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ
بِأَحْوَالِ النَّاسِ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ هَذَا بِحَفِيدِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
تَقِيِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ شَيْخِ ابْنِ الْقَيِّمِ
الَّذِي لَهُ الْمَقَالَاتُ الَّتِي طَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ
فِيهَا الْخِصَامُ ، وَأُخْرِجَ مِنْ مِصْرَ بِسَبَبِهَا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ . قَالَ فِي تَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ فِي تَرْجَمَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
: هُوَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُفْتِي عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْمُجْتَهِدِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
الْحَرَّانِيِّ وَعَمُّ الْمُصَنِّفِ الَّذِي أَشَارَ الذَّهَبِيُّ فِي أَوَّلِ
التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ تَفَقَّهَ عَلَيْهِ ، تَرْجَمَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي
تَارِيخِهِ فَقَالَ : هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيِّ الْمُلَقَّبُ فَخْرُ الدِّينِ الْخَطِيبُ
الْوَاعِظُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ كَانَ فَاضِلًا تَفَرَّدَ فِي بَلَدِهِ
بِالْعِلْمِ . ثُمَّ قَالَ : وَكَانَتْ إلَيْهِ الْخَطَابَةُ بِحَرَّانَ وَلَمْ
يَزَلْ أَمْرُهُ جَارِيًا عَلَى سَدَادٍ ، وَمَوْلِدُهُ فِي أَوَاخِرِ شَعْبَانَ
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِمَدِينَةِ حَرَّانَ ،
وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي حَادِيَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَكَانَ أَبُوهُ أَحَدَ الْأَبْدَالِ
وَالزُّهَّادِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ
قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } الَّذِي {
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } افْتَتَحَ الْكِتَابَ بِحَمْدِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَدَاءً لِحَقِّ شَيْءٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ
شُكْرِ النِّعْمَةِ ، الَّتِي مِنْ آثَارِهَا تَأْلِيفُ هَذَا الْكِتَابِ ،
وَعَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الِابْتِدَاءِ بِهِ كَحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي
عَوَانَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ كَلَامِ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ
فَهُوَ أَجْذَمُ } . وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ ، فَرَجَّحَ
النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ الْإِرْسَالَ . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي
الْكَبِيرِ وَالرَّهَاوِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ
بِالْحَمْدِ أَقْطَعُ } . وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ . { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ
بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ } . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد عَنْهُ ،
وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَفِي رِوَايَةٍ : " أَبْتَرُ
" بَدَلَ " أَقْطَعُ " ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخَرُ أَوْرَدَهَا
الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ لَهُ ،
وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي
بَابِ اشْتِمَالِ الْخُطْبَةِ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ مِنْ أَبْوَابِ الْجُمُعَةِ .
وَالْحَمْدُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ حُذِفَ حَذْفًا
قِيَاسِيًّا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّضِيُّ وَرَجَّحَهُ ، أَوْ سَمَاعِيًّا
كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُهُ . وَعَدَلَ بِهِ إلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ
عَلَى الدَّوَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَلَوْ
بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ الْعُدُولِ إذْ لَا مَدْخَلِيَّةَ لَهُ
فِي ذَلِكَ . وَحُلِّيَ بِاللَّامِ لِيُفِيدَ الِاخْتِصَاصَ الثُّبُوتِيَّ وَهُوَ
مُسْتَلْزِمٌ لِلْقَصْرِ فَيَكُونُ الْحَمْدُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ تَعَالَى ،
إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ لِغَيْرِهِ آيِلٌ إلَيْهِ ، أَوْ مُنَزَّلٌ
مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ مُبَالَغَةً وَادِّعَاءً ، أَوْ لِكَوْنِ الْحَمْدِ لَهُ
جَلَّ جَلَالُهُ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ . وَالْحَمْدُ هُوَ الْوَصْفُ
بِالْجَمِيلِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ لِلتَّعْظِيمِ ، وَإِطْلَاقُ
الْجَمِيلِ الْأَوَّلِ لِإِدْخَالِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ ،
فَإِنَّهُ حَمْدٌ لَهُ وَتَقْيِيدُ الثَّانِي بِالِاخْتِيَارِيِّ لِإِخْرَاجِ
الْمَدْحِ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنْ الْحَمْدِ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ :
هُمَا أَخَوَانِ ، وَذَكَرَ قَيْدَ التَّعْظِيمِ لِإِخْرَاجِ مَا يَأْتِي بِهِ
مِنْ الْمُشْعِرَاتِ بِالتَّعْظِيمِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ
، وَلَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ فِعْلِ الْجِنَانِ وَفِعْلِ الْأَرْكَانِ
فِي الْحَمْدِ ؛ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِمَا . وَأُجِيبَ
بِأَنَّهُمَا فِيهِ شَرْطَانِ لَا جُزْآنِ وَلَا جُزْئِيَّانِ ، وَمِنْ هَهُنَا
يَلُوحُ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنْ
الشُّكْرِ مُتَعَلَّقًا ، وَأَخَصُّ مَوْرِدًا لَا كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ مِنْ
أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مُطْلَقًا لِمُسَاوَاتِهِ الشُّكْرَ فِي الْمَوْرِدِ
وَزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ أَعَمَّ مُتَعَلَّقًا . وَمِمَّا يَنْبَغِي
أَنْ يُعْلَمَ هَهُنَا أَنَّ الْحَمْدَ يَقْتَضِي مُتَعَلَّقَيْنِ هُمَا :
الْمَحْمُودُ بِهِ ، وَالْمَحْمُودُ عَلَيْهِ ، فَالْأَوَّلُ : مَا حَصَلَ بِهِ
الْحَمْدُ ، وَالثَّانِي : الْحَامِلُ عَلَيْهِ كَحَمْدِكَ لِزَيْدٍ بِالْكَرَمِ
فِي مُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ ، وَقَدْ يَكُونُ التَّغَايُرُ اعْتِبَارًا مَعَ
الِاتِّحَادِ ذَاتًا كَالْحَمْدِ مِنْك لِمُنْعِمٍ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْك فِي
مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ ، فَإِنَّ الْإِنْعَامَ مِنْ حَيْثُ الصُّدُورُ
مِنْ الْمُنْعِمِ مَحْمُودٌ بِهِ وَمِنْ حَيْثُ الْوُصُولُ إلَيْك مَحْمُودٌ
عَلَيْهِ . وَتَقْدِيمُ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ عَلَى اللَّهِ
الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ
الْمُبْتَدَإِ التَّقْدِيمَ ، وَهِيَ تَرْجِيحُ مُطَابَقَةِ مُقْتَضَى الْمَقَامِ
، فَإِنَّهُ مَقَامُ الْحَمْدِ الِاسْمُ الشَّرِيفُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا
لِلتَّقْدِيمِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ فَرِعَايَةُ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ
أَلْصَقُ بِالْبَلَاغَةِ مِنْ رِعَايَةِ مَا تَقْتَضِيهِ الذَّاتُ . لَا يُقَالُ :
الْحَمْدُ الَّذِي هُوَ إثْبَاتُ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ لِلذَّاتِ لَا يَتِمُّ
إلَّا بِمَجْمُوعِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَفْظُ
الْحَمْدِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى مَفْهُومٍ فَقُدِّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ
وَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ إلَّا بِالْمَجْمُوعِ ، اللَّامُ
دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ الْإِثْبَاتِيَّ ، وَهُوَ
لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْرَ كَمَا لَا يَسْتَلْزِمُهُ الثُّبُوتِيُّ . وَاَللَّهُ
اسْمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ ،
وَلِذَلِكَ آثَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَإِنَّمَا
كَانَ هَذَا الِاسْمُ هُوَ الْمُسْتَجْمِعُ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ دُونَ غَيْرِهِ
مِنْ الْأَسْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ هِيَ الْمَشْهُورَةُ
بِالِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، فَمَا يَكُونُ عَلَمًا لَهَا دَالًّا
عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ ، لَا مَا يَكُونُ
مَوْضُوعًا لِمَفْهُومٍ كُلِّيٍّ ، وَإِنْ اخْتَصَّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِهَا
كَالرَّحْمَنِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَفْظَ اللَّهِ
عَلَمٌ لِلذَّاتِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، لَا الْمَفْهُومِ
كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ . وَأَصْلُهُ الْإِلَهُ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ
وَعُوِّضَتْ مِنْهَا لَامُ التَّعْرِيفِ تَخْفِيفًا ، وَلِذَلِكَ لَزِمَتْ
وَصْفَهُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ
الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إيلَاءِ كُلِّ نِعْمَةٍ وَيَسْتَحِقُّ جِنْسَ الْحَمْدِ ،
وَلَك أَنْ تَجْعَلَ نَفْيَ هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ إثْبَاتُهَا
ذَرِيعَةً مِنْ ذَرَائِعِ مَنْعِ الْمَعْرُوفِ لِكَوْنِ الْوَلَدِ مَبْخَلَةً ،
وَالشَّرِيكِ مَانِعًا مِنْ التَّصَرُّفِ رَدِيفًا لِإِثْبَاتِ ضِدِّهَا عَلَى
سَبِيلِ الْكِنَايَةِ . وَإِنَّمَا افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - كِتَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ إمْكَانِ تَأْدِيَةِ الْحَمْدِ
الَّذِي يُشْرَعُ فِي الِافْتِتَاحِ بِغَيْرِهَا ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَفْصَحَ الْغُلَامُ مِنْ بَنِي
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ، وَابْنُ السُّنِّيِّ
فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ النَّفْيِيَّةِ
صِفَةً إثْبَاتِيَّةً مُشْتَمِلَةً عَلَى أَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ خَالِقُ
الْأَشْيَاءِ بِأَسْرِهَا وَمُقَدِّرُهَا دِقَّهَا وَجُلَّهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ
نِعْمَةَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَتَقْدِيرِهِ مِنْ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْحَمْدِ
وَتَكْرِيرِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ أَوَّلَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى
الْحَامِدِ
( وَصَلَّى
اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْمُرْسَلِ كَافَّةً لِلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا )
أَرْدَفَ الْحَمْدَ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ الْوَاسِطَةَ فِي وُصُولِ الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ
وَالْعَمَلِيَّةِ إلَيْنَا مِنْ الرَّفِيعِ عَزَّ سُلْطَانُهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ
، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ
وَنَحْنُ فِي نِهَايَةِ النُّقْصَانِ لَمْ يَكُنْ لَنَا اسْتِعْدَادٌ لِقَبُولِ
الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ لِتَعَلُّقِنَا بِالْعَلَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ
وَالْعَوَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَتَدَنُّسِنَا بِأَدْنَاسِ اللَّذَّاتِ
الْحِسِّيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجِسْمِيَّةِ ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ
التَّجَرُّدِ وَنِهَايَةِ التَّقَدُّسِ . فَاحْتَجْنَا فِي قَبُولِ الْفَيْضِ
مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا إلَى وَاسِطَةٍ لَهُ وَجْهُ تَجَرُّدٍ وَنَوْعُ تَعَلُّقٍ ،
فَبِوَجْهِ التَّجَرُّدِ يَسْتَفِيضُ مِنْ الْحَقِّ ، وَبِوَجْهِ التَّعَلُّقِ
يَفِيضُ عَلَيْنَا ، وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ هُمْ الْأَنْبِيَاءُ ، وَأَعْظَمُهُمْ
رُتْبَةً وَأَرْفَعُهُمْ مَنْزِلَةً نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَذُكِرَ عَقِبَ ذِكْرِهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - تَشْرِيفًا لِشَأْنِهِ مَعَ
الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
عِنْدَ الزَّهَاوِيِّ بِلَفْظِ : { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ
بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ } وَكَذَلِكَ التَّوَسُّلُ
بِالصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ وَالْأَصْحَابِ لِكَوْنِهِمْ مُتَوَسِّطِينَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُلَاءَمَةَ
الْآلِ وَالْأَصْحَابِ لِجَنَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ مُلَاءَمَتِنَا لَهُ . وَالصَّلَاةُ
فِي الْأَصْلِ : الدُّعَاءُ وَهِيَ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ ، هَكَذَا فِي كُتُبِ
اللُّغَةِ ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيِّ : هِيَ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ تَشْرِيفٌ
وَزِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ ، وَلِسَائِرِ عِبَادِهِ رَحْمَةٌ . قَالَ فِي شَرْحِ
الْمِنْهَاجِ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ :
عَظِّمْهُ فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَاءِ ذِكْرِهِ وَإِظْهَارِ دَعْوَتِهِ
وَإِبْقَاءِ شَرِيعَتِهِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَشْفِيعِهِ فِي أُمَّتِهِ
وَتَضْعِيفِ أَجْرِهِ وَمَثُوبَتِهِ . وَهَهُنَا أَمْرٌ يُشْكِلُ فِي الظَّاهِرِ
هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِأَنْ نُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَحْنُ أَحَلْنَا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِنَا :
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَكَانَ حَقُّ الِامْتِثَالِ أَنْ نَقُولَ : صَلَّيْنَا
عَلَى النَّبِيِّ وَسَلَّمْنَا ، فَمَا النُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ فِي شَرْحِ
الْمِنْهَاجِ : فِيهِ نُكْتَةٌ شَرِيفَةٌ كَأَنَّنَا نَقُولُ : يَا رَبَّنَا
أَمَرْتَنَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا أَنْ نُصَلِّيَ صَلَاةً
تَلِيقُ بِجَنَابِهِ ؛ لِأَنَّا لَا نُقَدِّرُ قَدْرَ مَا أَنْتَ عَالِمٌ
بِقَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْتَ تَقْدِرُ أَنْ تُصَلِّيَ
عَلَيْهِ صَلَاةً تَلِيقُ بِجَنَابِهِ انْتَهَى . وَمُحَمَّدٌ عَلَمٌ لِذَاتِهِ
الشَّرِيفَةِ ، وَمَعْنَاهُ الْوَصْفِيُّ كَثِيرُ الْمَحَامِدِ ، وَلَا مَانِعَ
مِنْ مُلَاحَظَتِهِ مَعَ الْعَلَمِيَّةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوَاطِنِهِ .
وَآثَرَ لَفْظَ النَّبِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّرَفِ
وَالرِّفْعَةِ عَلَى مَا قِيلَ : إنَّهُ مِنْ النَّبْوَةِ ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ
مِنْ الْأَرْضِ . قَالَ فِي الصِّحَاحِ : إنْ جَعَلْت لَفْظَ النَّبِيِّ
مَأْخُوذًا مِنْ ذَلِكَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرُفَ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ
وَأَصْلُهُ غَيْرُ الْهَمْزَةِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ . وَالنَّبِيُّ
فِي لِسَانِ الشَّرْعِ : مَنْ بُعِثَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ فَإِنْ أُمِرَ
بِتَبْلِيغِهِ فَرَسُولٌ ، وَقِيلَ : هُوَ الْمَبْعُوثُ إلَى الْخَلْقِ
بِالْوَحْيِ لِتَبْلِيغِ مَا أُوحَاهُ . وَالرَّسُولُ قَدْ يَكُونُ مُرَادِفًا
لَهُ وَقَدْ يَخْتَصُّ بِمَنْ هُوَ صَاحِبُ كِتَابٍ . قِيلَ : هُوَ الْمَبْعُوثُ
لِتَجْدِيدِ شَرْعٍ أَوْ تَقْرِيرِهِ ، وَالرَّسُولُ : هُوَ الْمَبْعُوثُ
لِلتَّجْدِيدِ فَقَطْ . وَعَلَى الْأَقْوَالِ : النَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْ
الرَّسُولِ وَالْأُمِّيُّ : مَنْ لَا يَكْتُبُ ، وَهُوَ فِي حَقِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصْفٌ مَادِحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى
صِحَّةِ الْمُعْجِزَةِ وَقُوَّتِهَا بِاعْتِبَارِ صُدُورِهَا مِمَّنْ هُوَ
كَذَلِكَ ، وَذِكْرُ الْمُرْسَلِ بَعْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ لِبَيَانِ أَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ ، أَوْ صَاحِبُ كِتَابٍ ، أَوْ مُجَدِّدُ شَرْعٍ
بِطَرِيقٍ أَدَلَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى وَإِنْ
اشْتَرَكَا فِي أَصْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِيثَارُ هَذِهِ الصِّفَةِ :
أَعْنِي إرْسَالَهُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً لِكَوْنِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا
غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَكَافَّةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَصَاحِبُهَا
الضَّمِيرُ الَّذِي فِي الْمُرْسَلِ ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ ،
وَلَيْسَ بِحَالٍ مِنْ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى
صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَعِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ
كَيْسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقَدُّمُ الْحَالِ
عَلَى الصَّاحِبِ الْمَجْرُورِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى صِيغَةِ
الْمَصْدَرِيَّةِ ، وَالتَّقْدِيرُ الْمُرْسَلُ رِسَالَةً كَافَّةً . وَرُدَّ
بِأَنَّ كَافَّةً لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا حَالًا . وَالْبَشِيرُ النَّذِيرُ :
الْمُبَشِّرُ وَالْمُنْذِرُ وَإِنَّمَا عَدَلَ بِهِمَا إلَى صِيغَةِ فَعِيلٍ
لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ . وَالْآلُ أَصْلُهُ أَهْلٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى
أُهَيْلٍ . وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَهُ لَسُمِعَ تَصْغِيرُهُ عَلَيْهِ ، وَلَا
يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا لَهُ شَرَفٌ فِي الْغَالِبِ ، وَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ
لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَصْغِيرِهِ ، إذْ يَجُوزُ تَحْقِيرُ مَنْ لَهُ خَطَرٌ
أَوْ تَقْلِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْخَطَرَ فِي نَفْسِهِ لَا يُنَافِي التَّصْغِيرَ
بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَهُ خَطَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَيْضًا لَا
مُلَازَمَةَ بَيْنَ التَّصْغِيرِ وَبَيْنَ التَّحْقِيرِ أَوْ التَّقْلِيلِ ؛
لِأَنَّهُ يَأْتِي لِلتَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ : وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ
بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَّةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ وَلِلتَّلَطُّفِ
كَقَوْلِهِ : يَا مَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا . وَقَدْ اُخْتُلِفَ
فِي تَفْسِيرِ الْآلِ عَلَى أَقْوَالٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي بَابِ مَا
يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ آلِهِ الْمُصَلَّى عَلَيْهِمْ مِنْ أَبْوَابِ
صِفَةِ الصَّلَاةِ . وَالصَّحْبُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ : اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ كَرَكْبٍ لِرَاكِبٍ ، وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الصَّحَابِيِّ عَلَى أَقْوَالٍ : مِنْهَا
أَنَّهُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ وَلَا
جَالَسَهُ . وَمِنْهُمْ مِنْ اعْتَبَرَ طُولَ الْمُجَالَسَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ
اعْتَبَرَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى
دِينِهِ . وَبَيَانُ حُجَجِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَرَاجِحِهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا
مَبْسُوطٌ فِي الْأُصُولِ وَعِلْمِ الِاصْطِلَاحِ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ .
وَذَكَرَ السَّلَامَ بَعْدَ الصَّلَاةِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا } وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ
الْأَمَانُ أَيْ التَّسْلِيمُ مِنْ النَّارِ . وَقِيلَ : هُوَ اسْمٌ مِنْ
أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، وَالْمُرَادُ : السَّلَامُ عَلَى حِفْظِك وَرِعَايَتِك
مُتَوَلٍّ لَهُمَا وَكَفِيلٌ بِهِمَا . وَقِيلَ : هُوَ الْمُسَالَمَةُ
وَالِانْقِيَادُ .
( هَذَا
كِتَابٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي
تَرْجِعُ أُصُولُ الْأَحْكَامِ إلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ عُلَمَاءُ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا ) الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا إلَى الْمُرَتَّبِ
الْحَاضِرِ فِي الذِّهْنِ مِنْ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ أَوْ أَلْفَاظِهَا أَوْ
نُقُوشِ أَلْفَاظِهَا ، أَوْ الْمَعَانِي مَعَ الْأَلْفَاظِ ، أَوْ مَعَ
النُّقُوشِ ، أَوْ الْأَلْفَاظِ وَالنُّقُوشِ ، أَوْ مَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ ،
وَسَوَاءٌ كَانَ وَضْعُ الدِّيبَاجَةِ قَبْلَ التَّصْنِيفِ أَوْ بَعْدَهُ ، إذْ
لَا وُجُودَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ نَفْيَ
وُجُودِ النُّقُوشِ فِي الْخَارِجِ خِلَافُ الْمَحْسُوسِ فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ
الْإِشَارَةِ إلَى مَا فِي الذِّهْنِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ ؟ وَيُجَابُ
بِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ النُّقُوشِ فِي الْخَارِجِ لَا يَكُونُ إلَّا شَخْصًا ،
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ نُقُوشَ كِتَابِ الْمُصَنِّفِ الْمَوْجُودِ حَالَ
الْإِشَارَةِ مَثَلًا لَيْسَتْ الْمَقْصُودَةَ بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ الْمَقْصُودُ
وَصْفُ النَّوْعِ وَتَسْمِيَتُهُ وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ
الْمَخْصُوصَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا
يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ الْمَفْهُومِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حُصُولَ لِهَذَا
الْكُلِّيِّ ، فَالْإِشَارَةُ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ إلَى الْحَاضِرِ فِي
الذِّهْنِ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ اسْمِ الْإِشَارَةِ هُنَا مَجَازًا تَنْزِيلًا
لِلْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّنْشِيطِ . قَالَ
الدَّوَانِيُّ : وَمِنْ هَهُنَا عَلِمْت أَنَّ أَسَامِيَ الْكُتُبِ مِنْ أَعْلَامِ
الْأَجْنَاسِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ ( انْتَقَيْتهَا مِنْ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ . وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَجَامِعِ أَبِي
عِيسَى التِّرْمِذِيِّ ، وَكِتَابِ السُّنَنِ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّسَائِيّ ، وَكِتَابِ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ . وَكِتَابِ
السُّنَنِ لِابْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيِّ ، وَاسْتَغْنَيْت بِالْعَزْوِ إلَى
هَذِهِ الْمَسَانِيدِ عَنْ الْإِطَالَةِ بِذِكْرِ الْأَسَانِيدِ ) قَوْلُهُ : (
انْتَقَيْتهَا ) الِانْتِقَاءُ : الِاخْتِيَارُ ، وَالْمُنْتَقَى : الْمُخْتَارُ .
وَلْنَتَبَرَّكْ بِذِكْرِ بَعْضِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَبْلَغِ
وَجْهٍ فِي الِاخْتِصَارِ فَنَقُولُ : أَمَّا الْبُخَارِيُّ فَهُوَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
الْجُعْفِيُّ الْبُخَارِيُّ حَافِظُ الْإِسْلَامِ وَإِمَامُ أَئِمَّتِهِ
الْأَعْلَامِ . وُلِدَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الْفِطْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ وَعُمُرُهُ اثْنَتَانِ
وَسِتُّونَ سَنَةً إلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَلَمْ يُعْقِبْ وَلَدًا
ذَكَرًا . رَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَى جَمِيعِ مُحَدِّثِي الْأَمْصَارِ
وَكَتَبَ بِخُرَاسَانَ وَالْجِبَالِ وَالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ
وَمِصْرَ . وَأَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ
مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيّ ، وَعَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ
الْمَرْوَزِيِّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ ، وَأَبُو عَاصِمٍ
الشَّيْبَانِيُّ . وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ ، وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ،
وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَيَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ الْمَدَنِيُّ ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ
مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَأَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ قَالَ
الْفَرَبْرِيُّ : سَمِعَ كِتَابَ الْبُخَارِيِّ تِسْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ فَمَا
بَقِيَ أَحَدٌ يَرْوِي عَنْهُ غَيْرِي . قَالَ الْبُخَارِيُّ : خَرَّجْتُ كِتَابَ
الصَّحِيحِ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَمَا وَضَعْت فِيهِ
حَدِيثًا إلَّا وَصَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ . وَلَهُ وَقَائِعُ وَامْتِحَانَاتٌ
وَمَجْرَيَاتٌ مَبْسُوطَةٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ مِنْ تَرَاجِمِهِ . وَأَمَّا
مُسْلِمٌ فَهُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُشَيْرِيِّ
النَّيْسَابُورِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ ، الْحُفَّاظِ ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَمِائَتَيْنِ ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ . وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي
النُّبَلَاءِ : سَنَةَ سِتٍّ . وَتُوُفِّيَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتٍّ
أَوْ لِخَمْسٍ أَوْ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً . رَحَلَ إلَى الْعِرَاقِ
وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَأَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى
النَّيْسَابُورِيِّ ، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ،
وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ
الْقَوَارِيرِيِّ ، وَشُرَيْحِ بْنِ يُونُسَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةُ
الْقَعْنَبِيَّ وَحَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى ، وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ ، وَغَيْرِ
هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ . وَرَوَى عَنْهُ الْحَدِيثَ خَلْقٌ كَثِيرٌ
. مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، وَأَبُو زُرْعَةَ ،
وَأَبُو حَاتِمٍ . قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَاسَرْجِسِيُّ : سَمِعْت
أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت مُسْلِمًا يَقُولُ : صَنَّفْت الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ
مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتٍ
الْأَخْرَمُ : قَلَّمَا يَفُوتُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا مِمَّا ثَبَتَ فِي
الْحَدِيثِ حَدِيثٌ . وَقَالَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ : إنَّمَا
قَفَا مُسْلِمٌ طَرِيقَ الْبُخَارِيِّ وَنَظَرَ فِي عِلْمِهِ وَحَذَا حَذْوَهُ .
وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَهُوَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ الْمُجْمَعُ عَلَى
إمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلَالٍ
الشَّيْبَانِيُّ ، رَحَلَ إلَى الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا
وَسَمِعَ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَطَبَقَتِهِ ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ شُيُوخِهِ وَخَلَائِقُ آخَرُونَ لَا يُحْصَوْنَ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ . قَالَ أَبُو زُرْعَةَ كَانَتْ كُتُبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اثْنَيْ
عَشَرَ حِمْلًا وَكَانَ يَحْفَظُهَا عَلَى ظَهْرِ قَلْبِهِ وَكَانَ يَحْفَظُ
أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ ، وُلِدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ جَلِيلَةٌ ، وَامْتُحِنَ الْمِحْنَةَ
الْمَشْهُورَةَ . وَقَدْ طَوَّلَ الْمُؤَرِّخُونَ تَرْجَمَتَهُ وَذَكَرُوا فِيهَا
عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ . وَتَرْجَمَةُ الذَّهَبِيِّ فِي النُّبَلَاءِ فِي
مِقْدَارِ خَمْسِينَ وَرَقَةً وَأُفْرِدَتْ تَرْجَمَتُهُ بِمُصَنَّفَاتٍ
مُسْتَقِلَّةٍ ، وَلَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُسْنَدُ الْكَبِيرُ انْتَقَاهُ
مِنْ أَكْثَرِ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِينَ أَلْفِ حَدِيثٍ ،
وَلَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إلَّا مَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ
فَأَطْلَقَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِيهِ أَنَّهُ صَحِيحٌ . وَأَمَّا ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فَأَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهُ فِي مَوْضُوعَاتِهِ ، وَتَعَقَّبَهُ
بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِهَا ، وَقَدْ حَقَّقَ الْحُفَّاظُ نَفْيَ الْوَضْعِ عَنْ
جَمِيعِ أَحَادِيثِهِ ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ انْتِقَاءً وَتَحْرِيرًا مِنْ
الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ يَلْتَزِمْ مُصَنِّفُوهَا الصِّحَّةَ فِي جَمِيعِهَا
كَالْمُوَطَّأِ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعِ ، وَلَيْسَتْ الْأَحَادِيثُ الزَّائِدَةُ
فِيهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ بِأَكْثَرَ ضَعْفًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ . وَقَدْ ذَكَرَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ
فِيهِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ ، وَأَضَافَ إلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ
حَدِيثًا أَوْرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَهِيَ فِيهِ ،
وَأَجَابَ عَنْهَا حَدِيثًا حَدِيثًا . قَالَ الْأَسْيُوطِيُّ : وَقَدْ فَاتَهُ
أَحَادِيثُ أُخَرُ أَوْرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَهِيَ
فِيهِ ، وَقَدْ جَمَعَهَا السُّيُوطِيّ فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ الذَّيْلَ الْمُمَهَّدَ
وَذَبَّ عَنْهَا وَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا . قَالَ الْحَافِظُ
ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابِهِ تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ فِي رِجَالِ الْأَرْبَعَةِ :
لَيْسَ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَوْ
أَرْبَعَةً ، مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ زَحْفًا . قَالَ : وَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ أَنَّهُ مِمَّا أَمَرَ
أَحْمَدُ بِالضَّرْبِ عَلَيْهِ فَتُرِكَ سَهْوًا . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِي
زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ : إنَّ مُسْنَدَ أَحْمَدَ أَصَحُّ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِهِ ،
لَا يُوَازِي مُسْنَدَ أَحْمَدَ كِتَابُ مُسْنَدٍ فِي كَثْرَتِهِ وَحُسْنِ
سِيَاقَاتِهِ . قَالَ السُّيُوطِيّ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
مَا لَفْظُهُ : وَكُلُّ مَا كَانَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَهُوَ مَقْبُولٌ ، فَإِنَّ
الضَّعِيفَ الَّذِي فِيهِ يَقْرُبُ مِنْ الْحَسَنِ انْتَهَى . وَأَمَّا
التِّرْمِذِيُّ فَهُوَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ -
بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ
الْمُهْمَلَةِ مُخَفَّفَةً - ابْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ
التِّرْمِذِيُّ بِتَثْلِيثِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَوْ ضَمِّهَا
بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ . وُلِدَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ مِائَتَيْنِ ،
وَتُوُفِّيَ بِتِرْمِذَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ
سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ . هَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ
وَتَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ الْحُفَّاظِ أَخَذَ
الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِثْلِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ
مُوسَى ، وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى ، وَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ . وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ الْمَحْبُوبِي وَغَيْرُهُ ،
وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ، وَكِتَابُهُ الْجَامِعُ أَحْسَنُ
الْكُتُبِ وَأَكْثَرُهَا فَائِدَةً وَأَحْكُمُهَا تَرْتِيبًا وَأَقَلُّهَا
تَكْرَارًا ، وَفِيهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَذَاهِبِ وَوُجُوهِ
الِاسْتِدْلَالِ وَالْإِشَارَةِ إلَى مَا فِي الْبَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ،
وَتَبْيِينِ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْحُسْنِ وَالْغَرَابَةِ
وَالضَّعْفِ ، وَفِيهِ جَرْحٌ وَتَعْدِيلٌ وَفِي آخِرِهِ كِتَابُ الْعِلَلِ قَدْ
جَمَعَ فِيهِ فَوَائِدَ حَسَنَةً . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ :
وَتَخْتَلِفُ النُّسَخُ مِنْ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ فِي قَوْلِهِ حَسَنٌ أَوْ
حَسَنٌ صَحِيحٌ وَنَحْوِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْتَنِيَ بِمُقَابَلَةِ أَصْلِكَ بِأُصُولٍ
مُعْتَمَدَةٍ وَتَعْتَمِدُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ انْتَهَى . قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : صَنَّفْت كِتَابِي هَذَا فَعَرَضْته عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ
فَرَضُوا بِهِ ، وَعَرَضْته عَلَى عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ فَرَضُوا بِهِ ،
وَعَرَضْته عَلَى عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ ، وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ
هَذَا الْكِتَابُ فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ . وَأَمَّا
النَّسَائِيّ : فَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ بَحْرِ بْنِ سِنَانٍ النَّسَائِيّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ .
وَالْمَهَرَةِ الْكِبَارِ . وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ ،
وَمَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، وَهُوَ مَدْفُونٌ بِهَا ،
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ ،
وَحُمَيْدَ بْنِ مَسْعَدَةَ ، وَعَلِيِّ بْنِ خَشْرَمٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْأَعْلَى ، وَالْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ ، وَهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ
وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ ، وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ ، وَأَبِي دَاوُد
سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيِّ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَأَخَذَ
عَنْهُ الْحَدِيثَ خَلْقٌ مِنْهُمْ أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ ، وَأَبُو
الْقَاسِمِ الطَّبَرِيُّ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
هَارُونَ بْنِ شُعَيْبٍ ، وَأَبُو الْمَيْمُونِ بْنُ رَاشِدٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ سِنَانٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
إِسْحَاقَ السُّنِّيُّ الْحَافِظُ . وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحَدِيثِ
وَالْعِلَلِ . مِنْهَا السُّنَنُ وَهِيَ أَقَلُّ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ بَعْدَ
الصَّحِيحِ حَدِيثًا ضَعِيفًا . قَالَ الذَّهَبِيُّ وَالتَّاجُ السُّبْكِيُّ :
إنَّ النَّسَائِيّ أَحْفَظُ مِنْ مُسْلِمٍ صَاحِبِ الصَّحِيحِ . وَأَمَّا أَبُو
دَاوُد فَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ
شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْرَانَ الْأَزْدِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ بِفَتْحِ
السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ ، أَحَدُ مَنْ رَحَلَ وَطَوَّفَ
الْبِلَادَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَكَتَبَ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ
وَالْخُرَاسَانِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْجَزَرِيِّينَ .
وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ ، وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ . وَأَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ،
وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبِي
الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةُ الْقَعْنَبِيَّ ،
وَمُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
، وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا
يُحْصَى كَثْرَةً . وَأَخَذَ عَنْهُ الْحَدِيثَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ، وَأَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ ،
وَأَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ اللُّؤْلُؤِيُّ . قَالَ أَبُو بَكْرِ
بْنُ دَاسَّةَ : قَالَ أَبُو دَاوُد : كَتَبْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا
ضَمَّنْته هَذَا الْكِتَابَ : يَعْنِي كِتَابَ السُّنَنِ : جَمَعْت فِيهِ
أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ وَثَمَانِمِائَةِ حَدِيثٍ ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا
يُشْبِهُهُ وَمَا يُقَارِبُهُ . قَالَ الْخَطَّابِيِّ : كِتَابُ السُّنَنِ لِأَبِي
دَاوُد كِتَابٌ شَرِيفٌ لَمْ يُصَنَّفْ فِي عِلْمِ الدِّينِ كِتَابٌ مِثْلُهُ ،
وَقَدْ رُزِقَ الْقَبُولَ مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ
، فَصَارَ حَكَمًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ
وَالْفُقَهَاءِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ وِرْدٌ وَمِنْهُ شِرْبٌ ، وَعَلَيْهِ
مُعَوَّلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَكَثِيرٍ مِنْ
مُدُنِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ . قَالَ : قَالَ أَبُو دَاوُد : مَا ذَكَرْت فِي
كِتَابِي حَدِيثًا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ . قَالَ الْخَطَّابِيِّ
أَيْضًا : هُوَ أَحْسَنُ وَضْعًا وَأَكْثَرُ فِقْهًا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ .
وَأَمَّا ابْنُ مَاجَهْ فَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ ، وَمَاتَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ الْمَشَاهِيرِ ، أَلَّفَ سُنَنَهُ
الْمَشْهُورَةَ ، وَهِيَ إحْدَى السُّنَنِ الْأَرْبَعِ وَإِحْدَى الْأُمَّهَاتِ
السِّتِّ ، وَأَوَّلُ مَنْ عَدَّهَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ ابْنُ طَاهِرٍ فِي
الْأَطْرَافِ ثُمَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : إنَّهَا
كِتَابٌ مُفِيدٌ قَوِيُّ التَّبْوِيبِ فِي الْفِقْهِ ، رَحَلَ ابْنُ مَاجَهْ
وَطَوَّفَ الْأَقْطَارَ ، وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ : أَصْحَابُ مَالِكٍ ،
وَاللَّيْثُ ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ : أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ .
( وَالْعَلَامَةُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَخْرَجَاهُ
وَلِبَقِيَّتِهِمْ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَهُمْ سَبْعَتُهُمْ رَوَاهُ
الْجَمَاعَةُ . وَلِأَحْمَدَ مَعَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ،
وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ أُسَمِّي مَنْ رَوَاهُ مِنْهُمْ وَلَمْ أَخْرُجْ فِيمَا
عَزَوْتُهُ عَنْ كُتُبِهِمْ إلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ ، وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ
ذَلِكَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ،
وَرَتَّبْتُ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى تَرْتِيبِ فُقَهَاءِ أَهْلِ
زَمَانِنَا لِتَسْهُلَ عَلَى مُبْتَغِيهَا ، وَتَرْجَمْت لَهَا أَبْوَابًا
بِبَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ
يُوَفِّقَنَا لِلصَّوَابِ وَيَعْصِمَنَا مِنْ كُلِّ خَطَأٍ وَزَلَلٍ إنَّهُ
جَوَادٌ كَرِيمٌ ) قَوْلُهُ : ( لِأَحْمَدَ مَعَ الْبُخَارِيِّ . . . إلَخْ )
الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ مَا اتَّفَقَ
عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ دُونِ اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا
وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ جَعَلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَا
اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَوْلُهُ : (
وَلَمْ أَخْرُجْ ) هُوَ مِنْ الْخُرُوجِ لَا مِنْ التَّخْرِيجِ أَيْ إنَّهُ
اقْتَصَرَ فِي كِتَابِهِ هَذَا عَلَى الْعَزْوِ إلَى الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ
، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ فَيَرْوِي عَنْ غَيْرِهِمْ
كالدارقطني وَالْبَيْهَقِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَالْأَثْرَمِ . وَاعْلَمْ
أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا
جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ دُونِ بَحْثٍ ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا الصِّحَّةَ
وَتَلَقَّتْ مَا فِيهِمَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ :
إنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ النَّظَرِيَّ وَاقِعٌ بِمَا أَسْنَدَاهُ ؛ لِأَنَّ
ظَنَّ الْمَعْصُومِ لَا يُخْطِئُ وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ مُحَمَّدُ
بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ ، وَأَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ
الْخَالِقِ بْنِ يُوسُفَ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَكَاهُ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَنْ السَّلَفِ وَعَنْ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ
مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْأَشَاعِرَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَخَالَفَ ابْنَ الصَّلَاحِ الْمُحَقِّقُونَ
وَالْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا : يُفِيدُ الظَّنَّ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ وَنَحْوَ
ذَلِكَ حَكَى زَيْنُ الدِّينِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ قَالَ : وَقَدْ اسْتَثْنَى
ابْنُ الصَّلَاحِ أَحْرُفًا يَسِيرَةً تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ
النَّقْدِ كالدارقطني وَغَيْرِهِ ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا
الشَّأْنِ وَهَكَذَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا صَحَّحَهُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ
الْمُعْتَبَرِينَ مِمَّا كَانَ خَارِجًا عَنْ الصَّحِيحَيْنِ ، وَكَذَا يَجُوزُ
الِاحْتِجَاجُ بِمَا كَانَ فِي الْمُصَنَّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِجَمْعِ
الصَّحِيحِ ، كَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَمُسْتَدْرَكِ
الْحَاكِمِ وَالْمُسْتَخْرَجَات عَلَى الصَّحِيحَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفِينَ
لَهَا قَدْ حَكَمُوا بِصِحَّةِ كُلِّ مَا فِيهَا حُكْمًا عَامًّا ، وَهَكَذَا
يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا صَرَّحَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ
بِحُسْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ،
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي الْجَوَازِ إلَّا الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ ،
وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِ الْعَمَلِ
بِالْآحَادِ وَقَبُولِهَا شَامِلَةٌ لَهُ . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا سَكَتَ
عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي دَاوُد
أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا مِنْ حَدِيثٍ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ
بَيَّنْتُهُ وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ ، وَبَعْضُهَا
أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ . قَالَ : وَرَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ذَكَرْت فِيهِ
الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَمَا يُقَارِبُهُ . قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ
مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ : إنَّهُ أَجَازَ ابْنُ الصَّلَاحِ
وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْحُفَّاظِ الْعَمَلَ بِمَا سَكَتَ عَنْهُ
أَبُو دَاوُد لِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا
رُوِيَ عَنْهُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي بَعْضِهَا أَمْرٌ
يَقْدَحُ فِي الصِّحَّةِ وَالْحُسْنِ وَجَبَ تَرْكُ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ
الصَّلَاحِ : وَعَلَى هَذَا مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِهِ مَذْكُورًا مُطْلَقًا
وَلَمْ نَعْلَمْ صِحَّتَهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ الْحَسَنِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد
؛ لِأَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ يَحْتَمِلُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد الصِّحَّةَ
وَالْحُسْنَ انْتَهَى . وَقَدْ اعْتَنَى الْمُنْذِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي
نَقْدِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَبَيَّنَ ضَعْفَ
كَثِيرٍ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَارِجًا عَمَّا يَجُوزُ
الْعَمَلُ بِهِ ، وَمَا سَكَتَا عَلَيْهِ جَمِيعًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَالِحٌ
لِلِاحْتِجَاجِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ قَدْ نَبَّهْت عَلَى بَعْضِهَا فِي
هَذَا الشَّرْحِ . وَكَذَا قِيلَ : إنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
مِنْ أَحَادِيثِ مُسْنَدِهِ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي
تَرْجَمَتِهِ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ الَّتِي لَمْ
يَلْتَزِمْ مُصَنِّفُوهَا الصِّحَّةَ فَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِصِحَّتِهِ أَوْ
حُسْنِهِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ جَازَ الْعَمَلُ بِهِ . وَمَا وَقَعَ
التَّصْرِيحُ كَذَلِكَ بِضَعْفِهِ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ ، وَمَا أَطْلَقُوهُ
وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ وَلَا تَكَلَّمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ لَمْ يَجُزْ
الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ حَالِهِ إنْ كَانَ الْبَاحِثُ أَهْلًا
لِذَلِكَ ، وَقَدْ بَحَثْنَا عَنْ الْأَحَادِيثِ الْخَارِجَةِ عَنْ الصَّحِيحَيْنِ
فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَ الْوُقُوفُ
عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْحُفَّاظِ وَمَا بَلَغَتْ إلَيْهِ الْقُدْرَةُ . وَمَنْ
عَرَفَ طُولَ ذَيْلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لِشَرْحِهِ وَكَثْرَةَ
مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ
الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِهِ عَلَى الْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ مُتَعَسِّرٌ ، لَا
سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَقَدْ ذَكَرَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ فَنِّ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ أَحْسَنِ
الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي الْفَنِّ لَوْلَا عَدَمُ تَعَرُّضِ مُؤَلِّفِهِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْكَلَامِ عَلَى التَّصْحِيحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّضْعِيفِ
فِي الْغَالِبِ . قَالَ فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ مَا لَفْظُهُ : وَأَحْكَامُ
الْحَافِظِ مَجْدِ الدِّينِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الْمُسَمَّى
بِالْمُنْتَقَى هُوَ كَاسْمِهِ ، وَمَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا إطْلَاقُهُ فِي كَثِيرٍ
مِنْ الْأَحَادِيثِ الْعَزْوَ إلَى الْأَئِمَّةِ دُونَ التَّحْسِينِ
وَالتَّضْعِيفِ فَيَقُولُ مَثَلًا : رَوَاهُ أَحْمَدُ ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ
، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَيَكُونُ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا . وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ
كَوْنُ الْحَدِيثِ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مُبَيَّنًا ضَعْفُهُ فَيَعْزُوهُ
إلَيْهِ مِنْ دُونِ بَيَانِ ضَعْفِهِ ، وَيَنْبَغِي لِلْحَافِظِ جَمْعُ هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ وَكَتْبُهَا عَلَى حَوَاشِي هَذَا الْكِتَابِ ، أَوْ جَمْعُهَا فِي
مُصَنَّفٍ يَسْتَكْمِلُ فَائِدَةَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى . وَقَدْ
أَعَانَنِي اللَّهُ - وَلَهُ الْحَمْدُ - عَلَى الْقِيَامِ بِمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ
هَذَا الْحَافِظُ مَعَ زِيَادَاتٍ إلَيْهَا تُشَدُّ رِحَالِ الطُّلَّابِ ،
وَتَنْقِيحَاتٍ تَنْقَطِعُ بِتَحْقِيقِهَا عَلَائِقُ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ .
وَالْمَسْئُولُ مِنْ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ الْإِعَانَةُ عَلَى التَّمَامِ .
وَتَبْلِيغُنَا بِمَا لَاقَيْنَاهُ فِي تَحْرِيرِهِ وَتَقْرِيرِهِ إلَى دَارِ
السَّلَامِ . كِتَابُ
#كتاب الطهارة §#
#أبواب المياه#
متن:
كِتَابُ
الطَّهَارَةِ أَبْوَابُ الْمِيَاهِ
شرح:
الْكِتَابُ
مَصْدَرٌ يُقَالُ : كَتَبَ كِتَابًا وَكِتَابَةً ، وَقَدْ اسْتَعْمَلُوهُ فِيمَا يَجْمَعُ
شَيْئًا مِنْ الْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ
وَالضَّمِّ ، وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ وَيُطْلَقُ عَلَى مَكْتُوبِ الْقَلَمِ
حَقِيقَةً لِانْضِمَامِ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَكْتُوبَةِ إلَى
بَعْضٍ وَعَلَى الْمَعَانِي مَجَازًا ، وَجَمْعُهُ كُتُبٌ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ
فَسُكُونٍ وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ اشْتِقَاقُ الْكِتَابَةِ
مِنْ الْكُتُبِ وَاعْتَرَضَهُ أَبُو حَيَّانَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَصْدَرَ
لَا يُشْتَقُّ مِنْ الْمَصْدَرِ . وَالطَّهَارَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرَ
طَهُرَ اللَّازِمِ ، فَتَكُونُ لِلْوَصْفِ الْقَائِمِ بِالْفَاعِلِ وَأَنْ تَكُونَ
مَصْدَرَ طَهَّرَ الْمُتَعَدِّي فَتَكُونُ لِلْأَثَرِ الْقَائِمِ بِالْمَفْعُولِ ،
وَأَنْ تَكُونَ اسْمَ مَصْدَرِ طَهَّرَ تَطْهِيرًا كَكَلَّمَ تَكْلِيمًا .
وَأَمَّا الطَّهُورُ فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ : إنَّهُ بِالضَّمِّ
لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ وَبِالْفَتْحِ لِلْمَاءِ الَّذِي يُتَطَهَّرُ
بِهِ ، هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ
اللُّغَةِ عَنْ الْجُمْهُورِ . وَذَهَبَ الْخَلِيلُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو
حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ وَالْأَزْهَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ بِالْفَتْحِ
فِيهِمَا ، قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ : وَحُكِيَ فِيهِمَا الضَّمُّ ،
وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ : النَّظَافَةُ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ الْأَقْذَارِ .
وَفِي الشَّرْعِ : صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُثْبِتُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ الصَّلَاةِ
بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ . وَلَمَّا كَانَتْ مِفْتَاحَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ
عِمَادُ الدِّينِ . افْتَتَحَ الْمُؤَلِّفُونَ بِهَا مُؤَلَّفَاتِهِمْ .
وَالْأَبْوَابُ : جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِمَا كَانَ حِسِّيًّا يُدْخَلُ
مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَمَجَازٌ لِعِنْوَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ
الْمُتَنَاسِبَةِ . وَالْمِيَاهُ جَمْعُ الْمَاءِ وَجَمْعُهُ مَعَ كَوْنِهِ
جِنْسًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ
يتبع
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire
pour ajouter commentair selictioner anonyme
لاضافة تعليق ضع anonyme تم publier